فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك}
الظاهر أنّ لا زائدة تفيد التوكيد والتحقيق كهي في قوله لئلا يعلم أي لأن يعلم وكأنه قيل ليتحقّق علم أهل الكتاب وما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك ويدلّ على زيادتها قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد} وسقوطها في هذا دليل على زيادتها في {ألا تسجد} والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعه من السجود وإن كان تعالى عالمًا بما منعه من السجود وما استفهامية تدلّ على التوبيخ كما قلنا وأنشدوا على زيادة لا قول الشاعر:
أفعنك لا برق كأنّ وميضه ** غاب يسقمه ضرام مثقب

وقول الآخر:
أبي جوده لا البخل واستعجلت به ** نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وأقول لا حجّة في البيت الأول إذ يحتمل أن لا تكون فيه لا زائدة لاحتمال أن تكون عاطفة وحذف المعطوف والتقدير أفعنك لا عن غيرك وأما البيت الثاني فقال الزّجاج لا مفعولة والبخل بدل منها، وقال أبو عمرو بنُ العلاء: الرواية فيه لا البخل بخفض اللام جعلها مضافة إلى البخل لأنّ لا قد ينطق بها ولا تكون للبخل انتهى.
وقد خرّجته أنا تخريجًا آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعولة، وقال قوم: لا في أن لا تسجد ليست زائدة واختلفوا، فقيل يقدّر محذوف يصحّ معه المعنى وهو ما منعك فأحوجك أن لا تسجد، وقيل يحمل قوله ما منعك يصحّ معه النفي، فقيل معنى ما منعك من أمرك ومن قال لك أن لا تسجد.
{قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}
هذا ليس بجواب مطابق للسؤال لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره وهذا يقتضي عنده أنّ النار خير من الطين وإذا كان كذلك فالناشئ من الأفضل لا يسجد للمفضول، قالوا: وذلك أنّ النار جسم مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات ملاصق لها، والطين مظلم كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات، والنار قويّة التأثير والفعل والطين ليس له إلا القبول والانفعال، والفعل أشرف من الانفعال والنار مناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادة الحياة والطين ببرده ويبسه مناسب للموت وإذا تقرّر هذا فالمخلوق من الأفضل أفضل فلا يؤمر الأفضل بخدمة المفضول ألا ترى أنه لو أمر مثلًا مالك وأبو حنيفة بخدمة من هو دونهما في العلم لكان ذلك قبيحًا في العقل ثم قالوا أخطأ إبليس من حيث فضل النار على الطين وهما في درجة واحدة من حيث هما جماد مخلوق والطين أفضل من النار وجوه، أحدها أنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له في التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت إلى الاستكبار والإصرار فأورثه الهلاك واللعنة والعذاب قاله القفال، ثم ذكروا وجوهًا عشرة يظهر بها فضل التراب على النار ثم قالوا: لا يدل من كانت مادته أفضل على أنه تكون صورته أفضل إذ الفضيلة عطية من الله تعالى، ألا تراه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر وأن الحبشيّ المؤمن خير من القرشيّ الكافر وإذا كانت المقدّمة غير مسلمة لم ينتج والمقدمتان أن تقول إبليس ناري المادة وكلّ ناريّ المادة أفضل من ترابي المادة فإبليس أفضل من ترابي المادة والمقدمة الثانية ممنوعة فلا تنتج.
وقال ابن عباس والحسن وابن سيرين أول من قاس إبليس، قال ابن عباس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس، وقالا: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
وقال بعض العلماء: أخطأ قياسه وذهب علمه أنّ الرّوح الذي نفخ في آدم ليس من طين واستدلّ نفاة القياس على إبطاله بقصّه إبليس ولا حجّة فيها لأنه قياس في مورد النص فهو فاسد فلا يدلّ على بطلان القياس حيث لا نصّ واستدلّ بقوله: {إذ أمرتك} على أنّ مطلق الأمر يدلّ على الوجوب ويدلّ على الفور لذمّ إبليس على امتناعه من السجود في الحال ولو لم يدلّ على الوجوب ولا على الفور لم يستوجب الذمّ في الحال ولا مطلقًا. اهـ.

.قال ابن كثير:

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}
قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} لا هاهنا زائدة.
وقال بعضهم: زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشاعر:
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله

فأدخل إن وهي للنفي، على ما النافية؛ لتأكيد النفي، قالوا: وكذلك هاهنا: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} مع تقدم قوله: {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}
حكاهما ابن جرير وردهما، واختار أن {منعك} تضمن معنى فعل آخر تقديره: ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك، ونحو ذلك. وهذا القول قوي حسن، والله أعلم.
وقول إبليس لعنه الله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله: وأنا خير منه، فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه، بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه، وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] فشذ من بين الملائكة بتَرْك السجود؛ فلهذا أبلس من الرحمة، أي: أيس من الرحمة، فأخطأ قَبَّحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة؛ ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.
وفي صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم» هكذا رواه مسلم.
وقال ابن مَرْدُوَيه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل، عن عبد الله بن مسعود، حدثنا نُعَيم ابن حماد، حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله الملائكة من نور العرش، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم». قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال: باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح: «وخلقت الحور العين من الزعفران».
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شَوْذَب، عن مطر الوَرَّاق، عن الحسن في قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} قال: قاس إبليس، وهو أول من قاس. إسناده صحيح.
وقال: حدثني عمرو بن مالك، حدثنى يحيى بن سليم الطائفي عن هشام، عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ} استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدمِ سجود، كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه يظهر وجهُ الالتفاتِ إلى الغَيبة إذ لا وجهَ لتقدير السؤال على وجه المخاطبة، وفيه فائدةٌ أخرى هي الإشعارُ بعدم تعلقِ المحكيِّ بالمخاطَبين كما في حكاية الخلْقِ والتصوير {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} أي أن تسجُد كما وقع في سورة ص، ولا مزيدةٌ مؤكدةٌ لمعنى الفعل الذي دخلت عليه كما في قوله تعالى: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} منبّهةٌ على أن الموبَّخَ عليه تركُ السجود، وقيل: الممنوعُ عن الشيء مصروفٌ إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن تسجد {إِذْ أَمَرْتُكَ} قيل: فيه دِلالةٌ على أن مُطلقَ الأمرِ للوجوب والفور، وفي سورة الحِجْر: {قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} وفي سورة ص: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} واختلافُ العبارات عند الحكايةِ يدل على أن اللعينَ قد أدمج في معصية واحدةٍ ثلاثَ معاصٍ مخالفةَ الأمرِ ومفارقةَ الجماعةِ والإباءِ عن الانتظام في سلك أولئك المقرّبين والاستكبارَ مع تحقير آدمَ عليه السلام، وقد وُبِّخ حينئذ على كل واحدة منها، لكن اقتُصر عند الحكاية في كل موطنٍ على ما ذكر فيه اكتفاءً بما ذكر في موطن آخرَ وإشعارًا بأن كلَّ واحدةٍ منها كافيةٌ في التوبيخ وإظهارِ بطلانِ ما ارتكبه، وقد تُركت حكايةُ التوبيخِ رأسًا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيلَ وسورة الكهفِ وسورة طه.
{قَالَ} استئنافٌ كما سبق مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية التوبيخِ كأنه قيل: فماذا قال اللعينُ عند ذلك؟ فقيل: قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} متجانفًا عن تطبيق جوابِه على السؤال بأن يقول: منعني كذا مدّعيًا لنفسه بطريق الاستئنافِ شيئًا بيِّنَ الاستلزامِ لمنعه من السجود على زعمه، ومشعِرًا بأن مَنْ شأنُه هذا لا يحسُن أن يسجُدَ لمن دونه فكيف يحسُن أن يؤمرَ به؟ كما ينبئ عنه ما في سورة الحجر من قوله: {لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فهو أولُ من أسس بنيانَ التكبر، واخترع القولَ بالحُسن والقُبح العقليَّين، وقولُه تعالى: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} تعليلٌ لما ادعاه من فضله، ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهة المادةِ والعنصُر، وزل عنه ما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أي بغير واسطةٍ على وجه الاعتناءِ به وما من جهة الصورة كما نُبّه عليه بقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أُمر الملائكةُ بسجوده عليه السلام حين ظهر لهم أنه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرض وأن له خواصَّ ليست لغيره، وفي الآية دليلٌ على الكون والفساد وأن الشياطينَ أجسامٌ كائنةٌ، ولعل إضافةَ خلق البشرِ إلى الطين، والشياطينِ إلى النار باعتبار الجُزءِ الغالب. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ} استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه كما قيل يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة.
وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لإبليس حين لم يكن من الساجدين: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} المشهور أن لا مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] أي ليعلم، وهي في ذلك كما قال غير واحد لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه.
واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه.
قال الشهاب: والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقًا بل إذا صحب نفيًا مقدمًا أو مؤخرًا صريحًا أو غير صريح كما في {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} (الفاتحة؛ 7) وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به، ومن هنا قالوا إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود.
وقيل: إنها غير زائدة بأن يكون المنع مجازًا عن الإلجاء والإضطرار فالمعنى؛ ما اضطرك إلى أن لا تسجد.
وجعله السكاكي مجازًا عن الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد؟ وليس بين الجعلين كثير فرق.